الفكر الإسلامي
محاوراتٌ
في الدِّين
الحلقة
(7)
بقلم : الإمام محمد قاسم النانوتوي المتوفى
1297هـ/1880م
رئيس الطائفة المؤسسة
لجامعة ديوبند
تعريب : الأستاذ محمد ساجد
القاسمي*
الاعتراضات الأربعة للأسقف محي الدين:
بينما كان
الشيخ محمد قاسم يُلْقِي كلمته ، إذ قال له الأسقف: انتهى دورك؛ فعاد الشيخ إلى
مجلسه، وقامَ الأسقف محي الدين البشاوري ووجَّه أربعة اعتراضاتٍ إلى كلمة الشيخ،
وكانت اعتراضاتٍ سَخيفةً تَدُلُّ على أنّ الأساقفة قد سَلَّموا بما في كلمة الشيخ
من الأمور الأساسية اللازمة كما سلَّم بها الهندوس. والأمور الأساسية التي تتضمنها
الكلمة ثمانية، وهي كما يلي :
1- إثبات وجود الله تعالى .
2- توحيده .
3- كونه مطاعًا لازم الطاعة .
4- الحاجة إلى النبوة .
5- صفة النبوة وعلاماته .
6- نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
7- كون محمد ﷺ خاتم
النبيين .
8- توقف النجاة على اتباعه بعد مبعثه رسولاً.
هذه الأمور
الثمانية لم يُوَجِّه الأساقفة إلى أيٍّ منها اعتراضًا، إلاَّ أنّ الأسقف محي الدين
اعْتَرَضَ على ما تَتَضَمَّنُ كلمة الشيخ من التفاصيل الزائدة؛ فنَدِم وجرَّ
الندامة إلى الأساقفة . والأعتراضات الأربعة كما يلي :
الاعتراض الأوَّل :
كان الاعتراضُ
الأول مُوَجَّهًا إلى عصمة الأنبياء، وهو أنَّ آدم عليه السلام أكل القمح – رَغم
نهي الله عن أكله – فخالفَ أمر الله ، ومخالفة أمر الله عبارة عن المعصية ؛ وأنّ
داود زنا بزوجة أوريا – حاشا لله – ؛ و أنَّ سليمان عَبَدَ الصنم ، فالزِّنا
وعبادة الوثن معصيتان، وقد صدرتا عنهما رَغمَ كونهما نبيين؛ فلا يكونان معصومين.
وقد جاءت قِصَصُهما في القرآن.
وقد كان رَدَّ
الشيخ في كلمته على مثل هذا الاعتراض، إلا أنَّ الأسقف أثار هذا الاعتراض ليستلفت
انتباه الحضور في الحفل.
الاعتراض الثاني :
وكان الاعتراض
الثاني مُوَجَّهًا إلى معنى الآية: «وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلاَّ خَلاَ فِيْهَا نَذِيْرٌ» وهو أنّكم ادّعيتم
أنَّ كلَّ أمة بُعِثَ إليها رسول أو نبي . فمن بُعِث رسولاً إلى العرب قبل بعثة
محمّد ؟
كأنَّ الأسقف
أراد أن يُشِيرَ إلى أنَّ محمد ﷺ كيف عاش
أربعين سنةً من عمره قبل بعثته، ولا جَرَم أنه خالف دين الله في أفعاله وأعماله،
فلا يكون معصومًا .
الاعتراض الثالث :
وهو أنّه كان
ينبغي أن تُثْبِتوا معجزات محمد(ﷺ) بالقرآن
، وما أثبتموها به .
الاعتراض الرابع :
وهو مُوَجَّهٌ
إلى أفضلية محمد ﷺ ، وذلك
أنّ المسلمين يصلون على نبيّهم قائلين: «اللّهمَّ صلِّ على
سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صلَّيْتَ على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم،
إنَّك حميد مجيد» فكلمة «كما صلَّيت» التي تدل
على التشبيه، تُشِير إلى أنَّ إبراهيم عليه السلام أفضل من محمد ﷺ، وذلك أن المشبّه به
أفضل من المشبه .
الاعتراضات كثيرة إلا أننا نكتفي بهذه الأربعة
منها:
بعد أن وجَّهَ
هذه الاعتراضات الأربعة قال هو والأسقف «نولس»: إنَّ
كثيرًا من الاعتراضات قد خطرت ببالنا أثناء كلمة الشيخ، إلا أنها لا تحضرنا الآن
لطول كلمته».
وللقراء أن
ينظروا في هذه الأربعة حتى يعلموا حقيقتها، فلو كان الأسقف صادقًا فيما يدّعيه – وهو
أن الاعتراضات كثيرة إلا أنها تحضر الآن لطول لكمة الشيخ – فهذه الاعتراضات
الأربعة هي ملاك الاعتراضات وخلاصتها. فهذه الاعتراضات الأربعة التي لصِقَ بذهنه
ليست بذات بال، لو لم يذكرها لكان خيرًا له، ولما جَرَّ الندم .
حقيقة المعصية :
بعد أن وجَّه
الاعتراضات عاد الأسقف إلى مجلسه، وقام الشيخ وقال: «إنكم لم
تفهموا معنى المعصية وحقيقتها. فليست المعصية عبارةً عن مخالفة أمر الله ونهيه
فحسب؛ بل لابد أن تكون هذه المخالفة عمدًا لا سهوًا؛ ولذا يقال عند الاعتذار،
نَسِيْتُ أو أخطأت في الفهم، ولوكانت المخالفة عن نسيانٍ وسهوٍ معصيةً لكان القول
عند الاعتذار «نسيت» لغوًا .
الأنبياء تصدر عنهم زَلَّة لا معصية:
على كلٍ
فالمعصية هي مخالفة أمر الله أو نهيه سهوًا ونسيانًا، لا عمدًا، وإن كانت المخالفة
عمدًا لم يكن باعثها حُبَّ الله تعالى وعظمته . كما أشرت أثناء كلمتي إلى أنَّ المخالفة
صدرت عن الأنبياء سهوًا ونسيانًا، أو بداعٍ من حب الله ، لا عمدًا .
وجملة القول
أنَّ المعصية هي المخالفة عمدًا والتي لاتكون بداعٍ من الحبِّ والعظمة. وإن كانت
المخالفة سهوًا ونسيانًا أو بداعٍ من الحب والعظمة فهي ليست معصية، وإنما هي زلَّة
.
آدم عليه السلام ليس عاصيًا :
فانطلاقًا من
مبادئ الإسلام أكل آدم عليه السلام القمحَ لا يُعْتَبَرُ معصيةً؛ لأنه خالف أمر
الله سهوًا. فقد جاء في القرآن : «فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ له عَزمًا» (1) فإن صدرت عنه
المخالفة عمدًا لم يكن باعِثُها هوى النَّفَس؛ بل كان باعثها حبَّ الله وعظمته.
فقد جاء في قِصة آدم في موضعٍ آخر: مَا نَهـٰـكُمَا رَبُّكُما عَنْ هَذِه
الشَّجَرةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُوْنَا مِنَ الخَالِدِيْنَ،
وَقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَِمِنَ النَّاصِحِيْنَ فَدَلّهُما بِغُرُوْرٍ» (2)
فمعنى هذه الآية
أنَّ آدم وحوّاء خالفا أمر الله رغبةً في كونهما من الملائكة أو من الخالدين.
والملائكة من المقربين إلى جناب الله تعالى، ولا يرغب في التقرب إلى الله تعالى
إلا من يُعَظِّم الله ويُحِبِّه؛ فهذه المخالفة التي صدرت عنهما بداعٍ من حبِّ
الله وعظمته لاتُعْتَبر معصيةً .
فخلاصة القول
أنَّ أكل آدم عليه السلام القمح ليس معصيةً بل هو زلّة .
الردّ على الاعتراض الأول :
ثم قال: وأما
قولكم : إنَّ داود زنا – حاشا لله – و إنَّ سليمان عبد الصنم – حاشا لله – وجاء
ذكر قصتهما في القرآن، فهذا كذب صريح . ولم يرد ذكر شيء من هذا في القرآن . لو
علمتم ما جاء في القرآن لما كنتم مسيحيين.
الرد على الاعتراض الثاني :
ثم قال: وأما
قولكم : من بُعِثَ رسولاً إلى العرب قبل بعثة محمد . فالإجابة عن ذلك بأني متى قلت
إنه لابد من نبي في كل قرنٍ وعصر. لو كنت قلت ذلك لكان اعتراضكم صحيحًا. وإنما قلت:
لابدَّ من نبي أو رسولٍ إلى كل أمة. وليس هذا مَحَلاًّ لاعتراضكم .
الرد على الاعتراض الثالث :
ثم قال ردًّا
عن الاعتراض الثالث: ثبوت أمر لايستلزم ذكره في القرآن وأما ذكر أمر في القرآن أو
في الرواية الصحيحة فشرط لثبوته . فعند أهل الإسلام أحاديث صحيحة كثيرة جاء فيها
ذكر المعجزات ، وهي أحاديث تفوق التوراة والإنجيل قوّةً وصحة، بيد أنَّ معجزة
انشقاق القمر ونبوءة الخلافة قد ورد ذكرهما في القرآن.
ضيق الوقت لايسمح بالرَّد :
بينما كان
الشيخ يرد على الاعتراضات إذ قال الأسقف : انقضت عشر دقائق ، فعاد الشيخ إلى
مجلسه، وقال: ضيق الوقت مشكلة، وعندي ردّ على الاعتراض الرابع . ثم قال: وجِّهوا
الاعتراضات اعتراضًا اعتراضًا، وأنا أرُدُّ عليه؛ لأن الاعتراضات اذا اجتمعت،
لايسمح ضيق الوقت بالرد على جميعها . وتوجيه الاعتراض لا يستغرق وقتًا، وأما الرد
عليه فيستغرق زمنًا طويلاً . فقال الأسقف محي الدين : سوف نفعل كما تقول .
على كلٍ فقد
بقيت في قلوب المستمعين حسرة، إلا أنَّ الأمر
لم يكن بأيدينا، فعدنا صامتين؛ لأن الأساقفة قد كانوا حدَّدوا للمناقشة عشر
دقائق ، ووافقهم في ذلك علماء الهندوس ، وأما محاولة علماء المسلمين في شأن عدم
تحديد الوقت فقد فَشِلَتْ تمامًا .
يستدل الأسقف محي الدين بدليلٍ سخيف :
ثم جلس الشيخ
، وقام الأسقف محي الدين، وقال: لم يرد قصة زنا داؤد عليه السلام وقصة عبادة
سليمان عليه السلام الصنم في القرآن؛ بل وردتا في التوراة والزبور، والقرآن
يُصدِّق التوراة والزبور.
ردُّ الشيخ على دليله :
جلس الأسقف
محي الدين وقام الشيخ وقال: إنَّ القرآن يصدِّق التوراة والإنجيل، غير أنّه يصدِّق
التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام ، والإنجيل الذي نزل على عيسى عليه السلام
. وأما التوراة والإنجيل اللذان في أيديكم فلا يصدِّقهما القرآن؛ لأنهما قد دخلهما
التحريف .
الأسقف محي الدين يستشيط غضبًا :
فلما سمع
الأسقف ذلك استشاط غضبًا، وقال: إن أثبتم التحريف في التوراة والإنجيل كان قضاءً
بين الحق والباطل الآن فقال الشيخ: نعم ! الآن . فقال الشيخ لأبي المنصور: أخبر
الأسقف برأي علماء النصارى عن درس الإنجيل بهامشه الذي أريتموني صباح اليوم .
التحريف في الإنجيل :
قام الشيخ أبو
المنصور وقال: إنَّ التحريفات في الإنجيل كثيرة ، غير أنّكم انظروا على سبيل
المثال : الدرس السابع ، الباب الخامس ، رسالة يوحنا ، فقد جاء فيه : «ثلاثة تشهد
في السماء : الأب والكلام وروح القدس، وهذه الثلاثة واحد» فلما قامت
جمعية في «مرزافور» بنقل
الإنجيل من اللغة العبرية واليونانية إلى الأردية ، وطباعته عام 1970م ، وذلك
بعناية وإشراف كبار الأساقفة ، كتبوا على هامش الدرس : «هذه
الكلمات لاتُوْجَدُ في نسخةٍ من النسخ القديمة» .
الأساقفة تطير قلوبهم شعاعًا :
فقال الأساقفة
: لايمكن ذلك . فقال الشيخ محمد قاسم للشيخ أبي المنصور: هَلُمّ الكتابَ ، فأمر
الشيخ أبو المنصور بالكتاب، فأحضره خادمه من الخيمة ، فأرى الشيخ أبو المنصور
الأساقفة الدرس المتقدَّم ذكره ، فلما رأوه طارت قلوبهم شعاعًا . فأيْقَنَ الحضور
بأن غَلَبَ علماء المسلمين.
حذف وإضافة لاتحريف :
فقال الأسقف
فرارًا من الافتضاح : إنَّ هذا ليس بتحريفٍ وإنما هو حذف وإضافة ، وكان الردَّ على
قوله أنَّ الحذف والإضافة نوع من أنواع التحريف ، إلا أنَّ الشيخ خاف – إذا رَدَّ
عليه – من أنَّ الأسقف يضيِّع الوقت في المناقشة العقيمة ، فقال: إن لم يكن هذا
تحريفًا بل هو حذف وإضافة ، فدعوانا ثابتة أيضًا؛ لأن الغرض من إثبات التحريف عند
علماء المسلمين هو إثبات كون التوراة والإنجيل غير موثوقٍ بهما ، ففيما إذا
سُلِّمَ بالحذف والإضافة حصل هذا الغرض بالطريق الأولى .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1428هـ = أغسطس -
سبتمبر 2007م ، العـدد : 8 ، السنـة : 31.